بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله رب العالمين والصلاة والسلام على رسل الله أجمعين وبعد.
حقيقة الفكر والتفكر..
معنى الفكــر :
اعلم أن معنى الفكر هو إحضار معرفتين في القلب ليستثمر منها معرفة ثالثة ، ومثاله أن من مال إلى العاجلة وآثر الحياة الدنيا وأراد أن يعرف أن الآخرة أولى بالإيثار من العاجلة ، فله طريقان :
أحدهما : أن يسمع من غيره أن اللآخرة أولى بالإيثار من الدنيا ، فيقلده ويصدقه من غير بصيرة بحقيقة الأمر فيميل بعمله إلى إيثار الآخرة اعتماداً على مجرد قوله ، وهذا يسمى تقلييداً ولا يسمى معرفة .
والطريق الثاني : أن يعرف أن الأبقى أولى بالإيثار ، ثم يعرف أن الآخرة أبقى ، فيحصل له هاتين المعرفتين معرفة ثالثة وهو أن الآخرة أولى بالإيثار ، ولا يمكن تحقق المعرفة بأن الآخرة أولى بالإيثار إلا بالمعرفتين السابقتين .
فإحضار المعرفتين السابقتينفي القلب للتواصل به إلى المعرفة الثالة يسنى تفكراً واعتباراً وتذكراً ونظراً وتأملاً وتدبراً . أما التدبر والتأمل والتفكر : فعبارات مترادفة على معنى واحد ليس تحتها معان مختلفة .
التذكر والاعتبار والنظر :
وأما اسم التذكر والاعتبار والنظر : فهي مختلفة المعاني وإن كان أصل المسمى واحداً ؛ كما أن اسم : الصارم ، والمهند ، والسيف يتوارد على شيء واحد ولكن باعتبارات مختلفة فالصارم يدل على السيف من حيث هو قاطع ، والمهند يدل عليه من حيث نسبته إلى موضعه ، والسيف يدل دلالة مطلقة من غير إشعار بهذه الزوائد .
فكذلك الاعتبار : ينطلق على إحضار المعرفتين من حيث إنه يعبر منهما إلى معرفة ثالثة ، وإن لم يقع العبور ولم يمكن على إلا الوقوف على المعرفتين فينطلق عليه اسم : التذكر ، لا اسم : الاعتبار .
وأما النظر والتفكر فيقع عليه من حيث إن فيه طلب معرفة ثالثة ، فمن ليس يطلب المعرفة الثالثة لا يسمى ناظراً ، فكل متفكر هو متذكر ، وليس كل متذكر متفكراً ، وفائدة التذكار تكرار المعارف على القلب لترسخ ولا تنمحي عن القلب . وفائدة التفكر تكثير العلم واستجلاب معرفة ليست حاصلة . فهذا هو الفرق بين التذكر والتفكر.
توالد المعرفة :
والمعارف إذا اجتمعت في القلب وازدوجت في القلب على ترتيب مخصوص أثمرت معرفة أخرى ، فالمعرفة نتاج المعرفة . فإذا حصلت معرفة أخرى وازدوجت مع معرفة أخرى حصل في ذلك نتاج آخر . وهكذا يتمادى النتاج و تتمادى العلوم ويتمادى الفكر إلى غير نهاية ، وإنما تنسد طريق زيادة المعارف بالموت ، أو بالعوائق ، وهذا لمن يقدر على استثمار العلوم ويهتدي إلى طريق التفكير .
وأما أكثر الناس فإنما منعوا الزيادة في العلوم لفقدهم رأس المال وهو المعارف التي بها تستثمر العلوم ، كالذي لا بضاعة له فإنه لا يقدر على الربح ، وقد يملك البضاعة ولكن لا يحسن صتاعة التجارة فلا يربح شيئاً ، فكذلك قد يكون معه من المعارف ما هو رأس مال العلوم ولكن ليس يحسن استعمالها وتأليفها وإييقاع الازدواج المفضي إلى النتاج فيها .
ومعرفة طريق الاستعمال والاستثمار تارة تكون بنور إلهي في القلب يحصل بالفطرة ، كما كان الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين – وذلك عزيز جداً – وقد تكون بالتعلم والممارسة وهو الأكثر . ثم المتفكر قد تحضره هذه المعارف ةتحصل له الثمرة وهو لا يشعر بكيفية حصولها ، ولا يقدر على التعبير عنها لقلة ممارسته لصناعة التعبير في الإيراد . فكم من إنسان يعلم أن الىخرة أولى بالإيثار علماً حقيقياً ، ولو سئل عن سبب معرفته لم يقدر على إيراده والتعبير عنه مع أنه لم تحصل معرفته إلا عن المعرفتين السابقتين ، وهو أن الابقى أولى بالإيثار ، وأن الآخرة أبقى من الدنيا ، فتحصل له معرفة ثالثة وهو أن الآخرة أولى بالإيثار ، فرجع حاصل حقيقة التفكر إلى إحضار معرفتين للتواصل بها إلى معرفة ثالثة .
المرجع :
كتاب التفكر في خلق الله ..
المؤلف : الإمام الغزالي
حققه وعلق عليه وقدم له : ماهر المنجد
هيفاء عبدالخالق يحيى 3o4
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق